فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

ثم وصى تعالى بغير الوالدين من الأقارب، بعد الوصية بهما، بقوله سبحانه:
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} أي: من صلته وحسن المعاشرة والبر له بالإنفاق عليه.
قال المهايمي: لم يقل القريب لأن المطلق ينصرف إلى الكامل. والإضافة لما كانت لأدنى الملابسة، صدق ذو القربى على كل من له قرابة ما: {وَالْمِسْكِينَ} أي: الفقير من الأباعد. وفي الأقارب مع الصدقة صلة الرحم {وَابْنَ السَّبِيلِ} أي: المسافر المنقطع به. أي: أعنه وقوِّه على قطع سفره. ويدخل فيه ما يعطاه من حمولة أو معونة أو ضيافة، فإن ذلك كله من حقه: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} أي: بوجه من الوجوه، بالإنفاق في محرم أو مكروه، أو على من لا يستحق، فتحسبه إحسانًا إلى نفسك أو غيرك. أفاده المهايمي.
وفي الكشاف: كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها، وتبذر أموالها في الفخر والسمعة، وتذكر ذلك في أشعارها. فأمر الله بالنفقة في وجوهها، مما يقرب منه ويزلف.
{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} أي: أمثالهم في كفران نعمة المال بصرفه فيما لا ينبغي. وهذا غاية المذمة؛ لأن لا شر من الشيطان. أو هم إخوانهم أتباعهم في المصادقة والإطاعة. كما يطيع الصديق صديقه والتابع متبوعه، أو هم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد. والجملة تعليل المنهي عنه عن التبذير، ببيان أنه يجعل صاحبه مقرونًا معهم. وقوله: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} من تتمة التعليل. قال أبو السعود: أي: مبالغًا في كفران نعمته تعالى؛ لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى، أي: مبالغًا في كفران نعمته تعالى؛ لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى إلى غير ما خلقت له من أنواع المعاصي، والإفساد في الأرض، وإضلال الناس، وحملهم على الكفر بالله، وكفران نعمه الفائضة عليهم، وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به. وتخصيص هذا الوصف بالذكر، من بين سائر أوصافه القبيحة؛ للإيذان بأن التبذير، الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها، من باب الكفران، المقابل للشكر الذي هو عبارة عن صرفها إلى ما خلقت هي له. والتعرض لوصف الربوبية؛ للإشعار بكمل عتِّوه. فإن كفران نعمة الرب، مع كون الربوبية من أقوى الدواعي إلى شكرها، غاية الكفران ونهاية الضلال والطغيان. انتهى.
وقد استدل بالآية من منع إعطاء المال كله في سبيل الخير، ومن منع الصدقة بكل ماله.
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا} أي: وإن أنت أعرضت عن ذوي القربى والمسكين وابن السبيل، حياء من الرد، لانتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فتعطيه، فلا تؤيسهم وقل لهم قولًا لينًا سهلًا، وعدهم وعدًا جميلًا. قال في الكشف: {ابتغاء} أقيم مقام فقدانه، وفيه لطف. فكأن ذلك الإعراض لأجل السعي لهم. وهو من وضع المسبب موضع السبب. فإن الفقد سبب للابتغاء.
قال السيوطي في الإكليل: في هذه الآية الأمر بالقول اللين عند عدم وجود ما يعطى منه، وفسره ابن زيد: بالدعاء. والحسن وابن عباس: بالعدة. انتهى.
وظاهر، أن القول الميسور يشمل الكل. وذهب المهايمي إلى أن الآية في منعهم خوفًا من أن يصرفوه فيما لا ينبغي. قال: أي: وإن تحقق إعراضك عمن تريد الإحسان إليهم، طلب رحمة من ربك في المنع عنهم؛ لئلا يقعوا في التبذير، بصرف المعطي إلى شرب الخمر أو الزنى، لما عرفت من عاداتهم، فقل لهم في الدفع قولًا سهلًا عليهم، إحسانًا إليهم بدل العطاء. انتهى.
ولم أره لغيره، والنظم الكريم يحتمله.
{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} أي: لا تمسك يدك عن النفقة والعطية لمن له حق ممن تقدم، بمنزلة المشدودة يده إلى عنقه، الذي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء: {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} أي: بالتبذير والسرف. قال ابن كثير: أي: لا تسرف في الإنفاق، فتعطي غير طاقتك وتخرج أكثر من دخلك: {فَتَقْعُدَ} أي: فتبقى: {مَلُومًا} يلومك الفقراء والقرابة: {مَّحْسُورًا} أي: نادمًا، من الحسرة أو منقطعًا بك لا شيء عندك، من حسره السفر إذا بلغ منه الجهد وأثر فيه.
وفي النهيين استعارتان تمثيليتان شبه في الأولى فعل الشحيح في منعه، بمن يده مغلولة لعنقه، بحيث لا يقدر على مدِّها.
وفي الثانية شبه السرف ببسط الكف بحيث لا تحفظ شيئًا. وهو ظاهر. وجعل ابن كثير قوله تعالى: {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} من باب اللف والنشر المرتب. قال: أي: فتقعد، إن بخلت، ملومًا يلومك الناس ويذمونك، ويستغنون عنك، كما قال زهير في المعلقة:
ومن كان ذا مال فيبخل بماله ** على قومه يُسْتغنَ عنه ويُذْممِ

ومتى بسطت يدك فوق طاقتك، قعدت بلا شيء تنفقه، فتكون كالحسير، وهي الدابة التي عجزت عن السير، فوقفت ضعفًا وعجزًا.
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} أي: يوسعه ويضيقه، حسب مشيئته وحكمته {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} أي: خبيرًا ببواطنهم، بصيرًا بظواهرهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}
القرابة كلها متشعبة عن الأبوة فلا جرم انتقل من الكلام على حقوق الأبوين إلى الكلام على حقوق القرابة.
وللقرابة حقّان: حق الصلة، وحق المواساة.
وقد جمعهما جنس الحق في قوله؛ {حقه}.
والحوالة فيه على ما هو معروف وعلى أدلة أخرى.
والخطاب لغير معين مثل قوله: {إما يبلغن عندك الكبر} [الإسراء: 23].
والعدول عن الخطاب بالجمع في قوله: {ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين} [الإسراء: 25] الآية إلى الخطاب بالإفراد بقوله: {وآت ذا القربى} تفنن لتجنب كراهة إعادة الصيغة الواحدة عدة مرات، والمخاطب غير معين فهو في معنى الجمع.
والجملة معطوفة على جملة {ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23] لأنها من جملة ما قضى الله به.
والإيتاء: الإعطاء.
وهو حقيقة في إعطاء الأشياء، ومجاز شائع في التمكين من الأمور المعنوية كحسن المعاملة والنصرة.
ومنه قول النبي: ورجل آتاه الله الحِكمة فهو يقضي بها الحديث.
وإطلاق الإيتاء هنا صالح للمعنيين كما هي طريقة القرآن في توفير المعاني وإيجاز الألفاظ.
وقد بينت أدلّة شرعية حقوق ذي القربى ومراتبها: من واجبة مثل بعض النفقة على بعض القرابة مبينة شروطها عند الفقهاء، ومن غير واجبة مثل الإحسان.
وليس لهاته تعلق بحقوق قرابة النبي لأن حقوقهم في المال تقررت بعد الهجرة لما فرضت الزكاة وشرعت المغانم والأفياء وقسمتها.
ولذلك حمل جمهور العلماء هذه الآية على حقوق قرابة النسب بين الناس.
وعن علي زين العابدين أنها تشمل قرابة النبي.
والتعريف في {القربى} تعريف الجنس، أي القربى منك، وهو الذي يعبر عنه بأن (ال) عوض عن المضاف إليه.
وبمناسبة ذكر إيتاء ذي القربى عطف عليه من يماثله في استحقاق المواساة.
وحق المسكين هو الصدقة.
قال تعالى: {ولا تحضون على طعام المسكين} [الفجر: 18] وقوله: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيمًا ذا مقربة أو مسكينًا ذا متربة} [البلد: 14 16]. وقد بينت آيات وأحاديث كثيرة حقوق المساكين وأعظمها آية الزكاة ومراتب الصدقات الواجبة وغيرها.
{وابن السبيل} هو المسافر يمر بحي من الأحياء، فله على الحي الذي يمر به حق ضيافته.
وحقوق الأضياف جاءت في كلام النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جايزته يوم وليلة» وكانت ضيافة ابن السبيل من أصول الحنيفية مما سنّه إبراهيم عليه السلام قال الحريري: وحُرمة الشيخ الذي سَن القِرى.
وقد جعل لابن السبيل نصيب من الزكاة. وقد جمعت هذه الآية ثلاث وصايا مما أوصى الله به بقوله: {وقضى ربك} الآيات [الإسراء: 23].
فأما إيتاء ذي القربى فالمقصد منه مقارب للمقصد من الإحسان للوالدين رعيًا لاتحاد المنبت القريب وشدًّا لآصرة العشيرة التي تتكون منها القبيلة.
وفي ذلك صلاح عظيم لنظام القبيلة وأمنها وذبها عن حوزتها.
وأما إيتاء المسكين فلمقصد انتظام المجتمع بأن لا يكون من أفراده من هو في بؤس وشقاء، على أن ذلك المسكين لا يعدو أن يكون من القبيلة في الغالب أقعده العجز عن العمل والفقر عن الكفاية.
وأما إيتاء ابن السبيل فلإكمال نظام المجتمع، لأن المارّ به من غير بنيه بحاجة عظيمة إلى الإيواء ليلًا ليقيه من عوادي الوحوش واللصوص، وإلى الطعام والدفء أو التظلل وقاية من إضرار الجوع والقر أو الحر.
لما ذكر البذل المحمود وكان ضده معروفًا عند العرب أعقبه بذكره للمناسبة.
ولأن في الانكفاف عن البذل غير المحمود الذي هو التبذير استبقاء للمال الذي يفي بالبذل المأمور به، فالانكفاف عن هذا تيسير لذاك وعون عليه، فهذا وإن كان غرضًا مهمًا من التشريع المسوق في هذه الآيات قد وقع موقع الاستطراد في أثناء الوصايا المتعلقة بإيتاء المال ليظهر كونه وسيلة لإيتاء المال لمستحقيه، وكونه مقصودًا بالوصاية أيضًا لذاته.
ولذلك سيعود الكلام إلى إيتاء المال لمستحقيه بعد الفراغ من النهي عن التبذير بقوله: {وإما تعرضن عنهم} الآية، [الإسراء: 28] ثم يعود الكلام إلى ما يبين أحكام التبذير بقوله: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} [الإسراء: 29].
وليس قوله: {ولا تبذر تبذيرًا} متعلقًا بقوله: {وآت ذا القربى حقه}إلخ، لأنّ التبذير لا يوصف به بذل المال في حقّه ولو كان أكثر من حاجة المعطى بالفتح.
فجملة {ولا تبذر تبذيرا} معطوفة على جملة {ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23] لأنها من جملة ما قضى الله به، وهي معترضة بين جملة {وآت ذا القربى حقه} الآية وجملة {وإما تعرضن عنهم} الآية [الإسراء:2]، فتضمنت هذه الجملة وصية سادسة مما قضى الله به.
والتبذير: تفريق المال في غير وجهه، وهو مرادف الإسراف، فإنفاقه في الفساد تبذير، ولو كان المقدار قليلًا، وإنفاقه في المباح إذا بلغ حد السرف تبذير، وإنفاقه في وجوه البر والصلاح ليس بتبذير.
وقد قال بعضهم لمن رآه ينفق في وجوه الخير: لا خير في السرف، فأجابه المنفق: لا سرف في الخير، فكان فيه من بديع الفصاحة محسن العكس.
ووجه النهي عن التبذير هو أن المال جُعل عوضًا لاقتناء ما يحتاج إليه المرء في حياته من ضروريات وحاجيات وتحسينات.
وكان نظام القصد في إنفاقه ضَامِنَ كفايته في غالب الأحوال بحيث إذا أنفق في وجهه على ذلك الترتيب بين الضروري والحاجي والتحسيني أمِن صاحبه من الخصاصة فيما هو إليه أشد احتياجًا، فتجاوز هذا الحد فيه يسمى تبذيرًا بالنسبة إلى أصحاب الأموال ذات الكفاف، وأما أهل الوفر والثروة فلأن ذلك الوفر ءَاتتٍ من أبواب اتسعت لأحد فضاقت على آخر لا محالة لأن الأموال محدودة، فذلك الوفر يجب أن يكون محفوظًا لإقامة أود المعوزين وأهل الحاجة الذين يزداد عددهم بمقدار وفرة الأموال التي بأيدي أهل الوفر والجدة، فهو مرصود لإقامة مصالح العائلة والقبيلة وبالتالي مصالح الأمة.
فأحسن ما يبذل فيه وفر المال هو اكتساب الزلفى عند الله، قال تعالى: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} [التوبة: 41]، واكتساب المحمدة بين قومه. وقديمًا قال المثل العربي نعم العون على المروءة الجِدة.
وقال.. اللهم هب لي حمدًا، وهب لي مجدًا، فإنه لا حَمد إلا بِفعال، ولا فِعال إلا بمال. والمقصد الشرعي أن تكون أموال الأمة عُدة لها وقوة لابتناء أساس مجدها والحفاظ على مكانتها حتى تكون مرهوبة الجانب مرموقة بعين الاعتبار غير محتاجة إلى من قد يستغل حاجتها فيبتز منافعها ويدخلها تحت نِير سلطانه.
ولهذا أضاف الله تعالى الأموال إلى ضمير المخاطبين في قوله: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا} [النساء: 5] ولم يقل أموالهم مع أنها أموال السفهاء، لقوله بعده: {فإن آنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم} [النساء: 6] فأضافها إليهم حين صاروا رشداء.
وما مُنع السفهاء من التصرف في أموالهم إلا خشية التبذير.
ولذلك لو تصرف السفيه في شيء من ماله تصرف السداد والصلاح لمضى.
وذكر المفعول المطلق {تبذيرًا} بعد {ولا تبذر} لتأكيد النهي كأنه قيل: لا تبذر، لا تبذر، مع ما في المصدر من استحضار جنس المنهي عنه استحضارًا لما تُتصور عليه تلك الحقيقة بما فيها من المفاسد.
وجملة {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} تعليل للمبالغة في النهي عن التبذير.
والتعريف في {المبذرين} تعريف الجنس، أي الذين عرفوا بهذه الحقيقة كالتعريف في قوله: {هدى للمتقين} [البقرة: 2].